بقلم: د. مجدي الهلالي
يتردد كثيرًا على الساحة الإسلامية في هذه الآونة مصطلح "إيقاظ الإيمان"، وضرورة الاهتمام به، وإعطائه الأولوية في الأهداف التربوية التي تعني بتكوين الشخصية المسلمة، وهذا أمر طيب جدير بالتشجيع والمساندة من الجميع، وكيف لا ومشكلة الأمة بالأساس مشكلة إيمانية، ولن ينصلح حالها إلا بالإيمان؟! ﴿وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: من الآية 139)، وسنظل ندور في حلقةٍ مفرغةٍ لا نخرج منها إن لم نبدأ بالإيمان فنجده ونحييه في قلوبنا.
ولكن لكي يؤتي هذا الاهتمام بإيقاظ الإيمان ثمارَه المرجوَّة لا بد من الاتفاق على المقصود بهذه اليقظة؛ فهل المقصود بها أن تفرز مسلمًا يؤدي الصلوات الخمس على وقتها بالمسجد، ويصلي النوافل، ويكثر من ذكر الله؟!.
لو كان هذا الهدف فقط فبم تشخص حالة مَن يفعل ذلك وفي نفس الوقت تجده في تعامله مع المال شديدَ الحرص عليه؛ يحسب كل شيء ويُفكِّر في حقِّه أولاً قبل حقوق الآخرين، شديدَ التركيز على الدنيا؛ إذا ذهب لشراء شيءٍ ما تجده ينتقل بين الحوانيت للبحث عن الأرخص سعرًا، فإذا ما استقرَّ على حانوت فإنه لا يمل من مساومة البائع لتخفيض السعر قدر المستطاع؟!.
وإذا ما كان صاحبَ عقار تجده يتعامل مع المستأجرين معاملةً جافةً غليظة، ويجتهد في التنصل من حقوقهم عليه، وإذا ما ساعد الآخرين فبحسابٍ شديدٍ؛ يُصاب بالهلع إذا ما أُصيب ماله بخسارة ولو طفيفة، أو ضاعت من يديه صفقة رابحة.
وليس هذا خاصًّا بالأغنياء فقط؛ فالفقراء ومتوسطو الحال كذلك.. نجد بعض التناقض بين عباداتهم الظاهرة وسلوكياتهم ومعاملاتهم وبخاصةٍ فيما يخص المال؛ فالحرص على الدنيا، والحزن على فوات شيءٍ يسيرٍ منها، وأحلام اليقظة والأماني الدنيوية العريضة يسيطر على مخيلتهم.
الدنيا والإيمان
لا شك أن المحافظة على الصلوات في أول وقتها بالمسجد من مظاهر الإيمان، ولكن عندما لا تتواكب تلك المظاهر مع هوان الدنيا في عين صاحبها، وضآلة حجمها في قلبه، ومن ثَمَّ تعامله معها من منطلق هذه النظرة، فإن ذلك يعد بمثابة مؤشرٍ مهمٍ لعدم تمكُّن الإيمان من القلب، وعدم وصوله إلى مرحلة اليقظة والانتباه.
فعندما يستيقظ الإيمان، وتشتعل جذوته في القلب، فإن هذا من شأنه أن يجعل صاحب هذا القلب يدرك حقيقة الدنيا، فتصغُر في عينيه، وتهون عليه.
ويرى المال على حقيقته أنه (مال الله)، وأنه مستخلف فيه من قِبله سبحانه وتعالى، وأن الذي يرضى صاحبه هو إنفاقه على أوجه الخير ما وسعه ذلك.
المال رمز الدنيا
إن المال هو أهم رمز للدنيا، وعندما نرى من شخصٍ (ما) تلهفًا على المال، وحرصًا عليه، وخوفًا على فواته، وضيقًا من نقصانه، فإن هذا يُعطي دلالةً قويةً على أن الدنيا في قلبه تحت مساحة كبيرة، وأن إيمانه وإن كان موجودًا إلا أنه إيمان مُخدَّر نائم.
فإن قلت: ولكن هناك بعض الناس ينفقون في سبيل الله كثيرًا، ومع ذلك فهم مقصِّرون في الطاعات، ويتجرَّءون على فعل بعض المعاصي.
أجل.. هذا موجود بالفعل عند البعض، ولعل إنفاقهم في سبيل الله في هذه الحالة مردُّه إلى تربيتهم الأولى التي عوَّدتهم على السخاء والجود، ولكن لكي يكون هذا البذل معبِّرًا عن يقظةِ الإيمان في قلوبهم لا بد أن يواكبه ظهور علامات أخرى.
أجملها رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- في هذا الحديث: فعن عبد الله بن مسعود قال: قلنا يا رسول الله قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ (الزمر: من الآية 22)، كيف انشرح الصدر؟ قال:"إذا دخل النورُ القلبَ انشرح وانفتح، قلنا: يا رسول الله وما علامة ذلك؟ قال: "الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله" (أخرجه الحاكم والبيهقي).
فالعلامة الأولى- كما في الحديث- هي: الإنابة إلى دار الخلود، ومن مظاهرها: المسارعة إلى فعل الخير بأنواعه، والورع والحساسية الشديدة تجاه الحرام وكل ما فيه شبهة، وتقديم مصالح الدين على جميع مصالح الدنيا عند تعارضهما.
أما مظاهر العلامة الثانية ليقظة القلب "التجافي عن دار الغرور" فهي عدم التلهُّف على تحصيل الدنيا، وعدم الحزن على فواتها أو نقصانها، وقلة التفكير فيها، وعدم حسد الآخرين عليها، أو التطلع لما عند أهل الثراء فيها إلا رغبةً في الإنفاق في سبيل الله.
ومن مظاهر الاستعداد للموت قبل نزوله: المسارعة إلى التوبة الصادقة، ودوام الإنابة إلى الله، والتحلُّل من المظالم، وردُّ الحقوق والأمانات لأهلها.